كان للمدرسة طاقم من المعلمين ذكورا و إناثا موزعين حسب لغة التدريس وعلى رأسهم مدير المؤسسة. و هذا جدول يوضح بعض هؤلاء المعلمين الذين تتلمذت على أيديهم خلال الفترة التي قضيتها في هذة المؤسسة.
أحتفظ بالكثير من الذكريات عن هذه المرحلة الدراسية . و أبدأ بسبب دخولي هذه المدرسة.
- توجد هذه المدرسة بزنقة الشريشار من المدينة العتيقة , و لها باب على زنقة الشماع التي كنت حينها أقطن بإحدى منازلها. و هي عبارة عن مساحة كبيرة جدا معظمها فارغ من البناء تتكون من ثلاث مجموعات مبنية،اثنان منها ارضي فقط توجد على يمين مدخل المدرسة بعد صعود السلم و الثالثة ارضي و طابق علوي, مجموع الأقسام بها لا يزيد على 15 حجرة, اثنتان منها مخصصة للقرآن الكريم. أظن أن المدرسة عبارة عن دارين لكل واحدة منهما حديقة كبيرة يفصل بينهما جدار تم هدم جزء منه ليسهل المرور بينهما. كانت في حديقة الدار الثانية شجرة مشمش كبيرة كنا نأكل منها عند نضج ثمارها . ثم أضيف إلى الدارين دار ثالثة حيث كانت تهيأ بها وجبات الأكل لجميع التلاميذ عند وقت الغداء و أضيف إليها القسم الداخلي خلال السنة الدراسية 55 / 56 أو56/1957 .
بعد شفائي من الإمراض التي كانت قد أحلت بي , نصح ابن عمتي امحمد التونسي أبي أن يسجلني في هذه المدرسة القريبة من بيتنا عوضا من الرجوع إلى مدرسة مولاي الحسن البعيدة. فقبل والدي بالفكرة و ترك الأمر في يدي ابن عمتي الذي قام بجميع المستلزمات لتسجيلي بها و كان ذلك على الأرجح في أكتوبر من سنة 1954. و بما أنه لا يعرف تاريخ ميلادي الحقيقي فقد أدلى بتاريخ ميلاد مغاير نقص سنتين من عمري الحقيقي و لهذا أصبح التاريخ الرسمي لميلادي هو 1949م عوضا من 1947م. بعد تسجيلي بهذه المدرسة التحقت بقسم التحضيري الأول. كانت الدراسة الابتدائية وقتها تستغرق ست سنوات منتهية بالمتوسط الثاني حيث يجتاز التلميذ امتحانين وطنيين : امتحان الالتحاق بالتعليم الثانوي و امتحان شهادة الدروس الابتدائية.
بدأت مرحلتي التعليمية مع المعلمة دي فور (Dufour) زوجة المدير مدرسة اللغة الفرنسية خلال الفترة الصباحية و الفقيه العياشي مدرس القرآن الكريم خلال الفترة المسائية.كانت المعلمة امرأة كبيرة السن لكنها تنتهج طريقة التحفيز في التعليم حيث تعطي التلاميذ الذين يدلون بالجواب الصحيح جوائز رمزية بسيطة في حد ذاتها لكنها ضخمة في نظر التلميذ في ذلك السن المبكر و خصوصا الفقراء منهم. فكانت تارة تمنح الحلوى و تارة كوَيرات من زجاج و تارة كتب بسيطة و تارة نقط حسنة (Bon point) يجمع التلميذ عدد منها مقابل هدية, و كلما كان عدد هذه النقط كبيرا إلا و كانت الهدية ثمينة. و قد جمعت من الكويرات الزجاجية ما امتلآ به درج صغير من خزانة الوالدة رحمها الله. أما النقط الحسنة التي جمعتها و لم أتمكن من أخذ هديتي عليها فقد ملأت صندوق الأحذية .
بعد أسابيع قليلة من بداية الدراسة اختارتني المعلمة لأقوم بتقديم درس بالفرنسية عن الطبخ بعد أن أحضرت جميع مستلزمات المطبخ لوجبة الغداء. لا أدري لماذا كان اختيارها لي من دون الثلاثين تلميذا المسجلين في القسم, شعرت بفرح شديد لا يمكن تصوره بالرغم من أني لم أعرف اللغة الفرنسية من قبل و لم أسمع بها و لم أعلم بوجودها , أتذكر هذا الدرس كما لو أني أقوم بتقديمه اليوم , من يومها كلفتني المعلمة بان أصبح ممثل التلاميذ بالقسم و المكلف به ، حيث ألتحق بقاعة الدرس قبل دخول التلاميذ بفترة زمنية كافية لأخرج الدفاتر و كتب المطالعة من الخزانة لكي أوزعها على المقاعد حسب أسماء التلاميذ و أستخرج السبورات الحجرية و الطباشير الجيري و أملأ المحابر و أوزع أقلام الريشة و أهيئ السبورة الخشبية لتصبح جاهزة لكتابة الدرس . كل هذا يجب أن يتم قبل دخول التلاميذ للقسم. و أثناء الاستراحة أقوم بحراسة الأدوات التي وزعتها. أما عند انتهاء الحصة الصباحية فأرجع كل شيء إلى مكانه. أما إذا خرجت المعلمة إلى أمر ما فأنا أقوم بالحراسة و إخبرها بالعناصر التي تحدث فوضى بكتابة أسمائهم على السبورة.
أما في فترة الزوال فكانت المدرسة تقدم الطعام لكل تلميذ رغب في وجبة الغداء داخل المدرسة, كنا نجلس على حافة صور صغير -الذي يحدد الممرات بين أماكن الغرس- و توضع طاولات من الخشب أمامنا لتحمل الصحون و قطع الخبز التي توزع علينا, غالبا ما يكون الغداء عبارة عن وجبة من القطاني (العدس أو الفصولية أو الحمص) و نادرا ما يكون لحما أو سمكا مقليا.أما يوم الجمعة فيكون الغداء عبارة عن الكسكس . ما ألذ تلك الوجبات و ما أشهاها بين الأصدقاء و التلاميذ و حتى بعض المعلمين. و من أراد المزيد فإن "الطعام متوفر،" فليأكل ما يشاء. و عند الانتهاء من الوجبة الرسمية تقدم لنا قطعة من الخبز و قطعة من الشكلاطا .
و في نهاية السنة الدراسية 54/55 أتذكر أنني حصلت على الرتبة الأولى فاستلمت جائزة النجاح من يد المدير نفسه و كان عبارة عن كتيب يحكي قصة بطة في حظيرة مزرعة و اسم الكتاب Le vilain petit canard و الذي ظللت احتفظ به إلى بداية الخمسينات من عمري حتى تلاشى و مزقت أوراقه من القدم.
في السنة الدراسية التالية التحقت بالتحضيري الثاني، استمر نشاطي و لكن أقل مما كان عليه سابقا من حيث تكليفي بالقسم و شؤونه، لكنه استمر بنفس الوتيرة الماضية من حيث نشاطي التعليمي و كنت من بين التلاميذ المرموقين في الصف, كانت أسرتي تسكن مدينة مرتيل فكنت أغادر المنزل في الصباح و لا ارجع إلا في المساء سواء كان الجو شتاءا أو ربيعا, باردا أو حارا ممطرا أو صحوا .
قلة تكليفي بالقسم , خلال هذه السنة, جعلني أصاحب أصدقاء و زملاء القسم و أرافقهم في بعض الأحيان إلى بيوتهم إثناء فترة الزوال أو عند الخروج مساءا. و هكذا ازدادت أواصر الصداقة بيني و بين العديد من الأصدقاء التي دامت إلى يومنا هذا و أذكر على سبيل المثال لا الحصر جميل الورياغلي, أحمد بويسف, عبد الخالق العروسي, البوفراحي, القنايشي, عبد الرحيم الدفوف(رحمه الله ), عبد الكريم القناقي, طارق الشحام, عبد السلام أحديد, محمد ارودان ( السعيدي), محمد الصنهاجي, عبد الله و الصنهاجي, محمد و مصطفى عدة, حسن بنمسعود, الورياغلي, الدبدوبي, محمد المعداني . جل هؤلاء التلاميد زاروا منزلي خصوصا لما انتقلت اسرتي من مرتيل إلى زنقة فران المسلس بالمدينة العتيقة .
كان السفر بين مرتيل و تطاون يستغرق أكثر من ساعة زمن, و كان الوالد يعطيني كل صباح ثمن الركوب و كان مقدرا ذلك 10 سنتيمات (بسيطة واحدة) نصفها ذهابا و نصفها إيابا. و كنت و من معي من الأطفال مثلي نترقب الحافلة التي كان مساعد السائق أعمش لا يرى جيدا فيحلو لنا خدعته ثمَّ نسلمه نصف سنتيم (شيكا) بعد أن نقوم بثقب وسطها على أنها 10 سنتيمات (بسيطة) فيرد علينا 5 سنتيمات.
و انتهت السنة الدراسية و حصلت على الرتبة الأولي و محمد درجاج على الرتبة الثانية.
عند بداية السنة الدراسية 56/57 قررت الوزارة عدم صعود الناجحين إلى الأقسام التالية ما عدا الأول و الثاني من الترتيب و كان ذلك من نصيبي و نصيب درجاج. فلما التحقت بقسم الابتدائي الأول وجدت معلم الفرنسية هو السيد عبد السلام الكاتي و كان يعرف بالقساوة و التشدد مع التلاميذ و إرهابهم و الاعتداء عليهم بسبب أو بعدمه. استقبلني المعلم لأول يوم بضربة على رأسي . فقلت في نفسي لا بأس أنها الفرحة بقدومي عنده. و بعد قليل أمر التلاميذ بالوقوف إمام السبورة و استظهار الدرس السابق. فمن استرجعه عن ظهر قلب جعله على يمين السبورة – و قليل ما هم- و من لم يستظهره أو أخطأ جعله على يسار السبورة – و كثير ما هم- إلى أن مر الجميع ما عدا أنا و درجاج. فأمر الطائفة الأولى للرجوع إلى مقاعدهم و عاقب الآخرين بالضرب الموجع و المؤلم على أيديهم حتى احمرَّت و انتفخت من القسوة .
مر علي ذلك اليوم و أنا في رعب و فزع , فما كادت تنتهي الحصة حتى ذهبت إلى المدير و طلبت منه أن يعيدني إلى المستوي الأدنى و لا أظل مع هذا الجبار السفاك. و هكذا عدت إلى الخلف و لم يدر أحد من أسرتي بهذا الحدث.
علاقتي بجميل الورياغلي و إخوته و أبيه الذي كنت أعتبره أبي الثاني المسؤول عني في المدرسة, علاقة أبوة و بنوة. مما دفع السيد العربي الورياغلي (أبو جميل و معلمي بالمدرسة) إلى إن يدخلني القسم الداخلي الذي أنشئ في تلك السنة للتلاميذ الفقراء منهم أو القاطنين بعيدا عن المدرسة لما علم أن أسرتي تسكن مرتيل.
يوجد القسم الداخلي في الجناح العلوي من المدرسة و بابه يفتح على زنقة الشماع. وهو عبارة عن منزل كبير من الطراز الأندلسي بغرفه الواسعة و الطويلة و بهوه و مطبخه ... لا أظن أن عدد قاطنيه كان يزيد على ثلاثين تلميذا يحرسهم أكبر تلاميذ المدرسة و هو السيد محمد بنعجيبة و يدير الداخلي السيد عبد السلام الكاتي و الذي كانت معاملته بالقسم الداخلي مختلفة جدا عما كانت عليه أثناء التدريس . كان يقوم بأنشطة تربوية و ترفيهية و رياضية و مسابقات . و هذه قطعة من إحدى الأناشيده التي كنا نرددها بعد وجبة العشاء:
لا peret و لا رزة لا fils د الطلبة
ا هذو مزيانين صاحبكم
اسمعو واش اقولكم
Joie à ceux qui portent l’enseigne blanche
Tout cela porte la baraka
إوا يالله إوا يالله اجيو معنا
إوا يالله إوا يالله اتكاجيو معنا
كنا نقضي يومنا داخل المؤسسة بين القسم الداخلي و الخارجي. كان مكان النوم في غرفة طويلة تسع حوالي 10 أسرة بين كل واحدة ممر صغير و ضيق من الجانب و من الخلف. و لا أتذكر أين كنا نحفظ ثيابنا. أما الطعام فكنا نتناوله في مقعد الدار على طاولات خشبية . كان رفيقي المجاور هو البوفراحي و بجانبه عبد الخالق العروسي. و كان سريري بالقرب من النافذة المطلة على ساحة المدرسة.
و هكذا انتهت السنة الدراسية كما انتهت السنوات السابقة بتفوقي على جميع التلاميذ.
بدأت السنة الدراسية الجديدة و كانت أخر سنة نقضيها في هذه المؤسسة و كان معلم الفرنسية هو الأستاذ العربي الورياغلي و معلم العربية هو الأستاذ البقالي.
في هذه السنة انتقلت أسرتي من مرتيل إلى دار درجاج بزنقة فران المسلس حومة جامع الكبير و لم يعد هناك مشكل التنقل, كما أن القسم الداخلي لم يعد متوفرا بالمؤسسة.
كما سبق في السنوات الماضية ما زلت احتل المرتبة الأولى سواء عند معلم الفرنسية أو معلم العربية إلا انه وقع حادث مع الأستاذ البقالي لم أنساه إلى يومنا هذا. كان يطلب من التلاميذ حفظ القران, ذلك ما لم أتأخر عليه أبدا لكن في مرة عند حفظ سورة الملك وقع لي ارتباك في أخرها فلم يغفر لي ذلك و عاقبني بالضرب على رجلي حتى انتفخت بينما لم يضرب غيري، بل كان يساعدهم على استظهار السورة مما جعلني اكرهه و لا أطيق النظر إليه حتى بعد أن انتهت السنة الدراسية و خلال السنوات اللاحقة . ولم أع معاملة الأستاذ البقالي إلا في السنوات الأخيرة (سنة 2009) حيث ذكرت له الواقعة فأجابني بأن هذا التصرف كان بمثابة تحفيز لي كي لا اكرر الخطأ في القرآن بالذات و أن قدراتي الفكرية و ذكائي لا يسمحان لي بالخطأ, و أن من كان يساعدهم لا يملكون القدرات التي أملكها أنا.
أما معاملة السيد الورياغلي كانت ممتازة و ظلت علاقتي و صداقتي به و بالأسرة حميمية إلى أن التحق بالرفيق الأعلى رحمه الله ، و تفرق الأبناء و البنت و كنت كلما رجعت من الرباط أو من موريطانيا أقوم بزيارته قي منزله و أظل معه وقتا طويلا نتجاذب أطراف الحديث . و كثير ما التقيت به في مرتيل فنتجول جميعا في الشوارع و الشاطئ
عند بداية السنة الدراسية 58/59 في يوم من أيام أكتوبر 1958 طلبت الادارة من جميع التلاميذ الاصطفاف ثمَّ خرجنا من المدرسة بزنقة الشريشار و نحن لا ندري ما السبب. ونحن نمشي على الأقدام و نتجه من حي إلى حي
آخر حتى وصلنا إلى حي المصلى القديمة و منها إلى مدرسة
ابن خلدون اليوم (Jose Antonio)
كان هذا هو مقرنا الجد يوسف شارية